جميل مطر



لن تكون القمة في دورتها الراهنة أول قمة عربية لا يهتمّ بانعقادها الرأي العام العربي. انعقدت قمم عربية كثيرة وانفضّت، ولم يسفر عن انعقادها ولا انفضاضها أمل بتحسّن أحوال الأمة. وساد الظن لفترة طويلة، ولعله ما يزال سائداً، بأن المسؤولين العرب ينظمون مؤتمرات القمة العربية ويعقدونها، وهم في قرارة أنفسهم واثقون من أن شيئاً مثمراً أو قراراً مفيداً لن يخرج عنها.

أتصور كالعادة أن نيات قررت سلفاً أن تختلف هذه القمة عن سابقاتها. أتصور أيضا أن نيات أخرى تزمع منع هذه القمة من أن تتحول إلى عائق يعطل مسيرة توازنات إقليمية جديدة جارٍ تخليقها. أسمع كذلك عن أن أكثر من نية انعقدت على أن تؤدي هذه القمة إلى حرف انتباه المواطن العربي، المطحون فقراً أو قمعاً أو عذاباً والمهدّد بالموت فوراً أو بالحياة متشرداً في مخيم، عن قضاياه الجوهرية والحادة، وإلهائه بمظاهرة أحضان وقبلات وكلمات جذابة، وإن ناقصة إرادة التنفيذ. أذكر، ولا شك يذكر معي مواطنون على شاكلتي، أن قمماً عقدت، وفي نيات منظميها الخروج ببيانات أو قرارات أوحت بها دول أجنبية عظمى، إثنتان منها على الأقل أعقبتهما حربان داميتان زهقت فيهما أرواح كثيرة ودمّرت أرصدة وطنية وقومية عديدة. أذكر أيضاً قمماً دعيت للانعقاد لا لشيء سوى التظاهر بدعم حكومة البلد المضيف.

عشنا عقوداً عديدة ننتظر قمة تثمر نقلة نوعية في حياة العرب ومسيراتهم. انتظرنا أن يقتنع الحاكم العربي بأن رخاء بلده وأمنه واستقراره يمكن أن تتحقق جميعها بشكل أفضل وأسرع لو كان الحال في كل أنحاء العالم العربي أحسن مما هو عليه. انتظرنا أن يأتي يوم نرى فيه القمة العربية وقد نجحت في غرس التفاؤل لدى مواطنيها في مستقبل الأمة. نجاحها في غرس التفاؤل لدى مواطني الأمة كان يمكن أن يزيح جانباً عناصر الفرقة، وفي مقدّمها الشوفينية العرقية والمذهبية والطائفية. لم تنجح القمة في غرس التفاؤل، لا لسبب، سوى أنها لم تحاول. نعرف الآن أن انظمة حكم بعينها احتفظت بعناصر الفرقة لحاجتها إليها في «تخدير» الجماهير وإلهاء النخب العشائرية التقليدية وإرضاء أصحاب المصالح الضيقة.

هل تنجح القمة الراهنة في ما لم تنجح فيه سابقاتها؟ أتمنى، ويتمنى كل من ضاقت به السبل الرائجة حالياً، أن تنجح، ولكننا نعرف جيدا أن نجاحا على مستوى خطورة الوضع العربي الراهن يتطلب أولا وقبل أي شيء آخر، وبحسب رأي مسؤولين كبار في دول أجنبية وعربية، تصفية البنود المعلقة في جداول، أعمال القمم العربية، بعضها يعود إلى أول جدول وأكثرها اكتسب صفة البنود الثابتة في الجداول اللاحقة، وأقلها استجدّ مؤخراً، أي خلال العقد أو العقدين الأخيرين.

لم تنعقد قمة عربية إلا وكانت قضية فلسطين تحتل مكانها في البنود الرئيسة. لا أذكر أني كنت شاهداً على مؤتمر قمة، سواء بالمتابعة عن قرب أو بالحضور، على الأقل منذ قمة 1964، وهي القمة التي كان أهم إنجاز لها أنها دشنت فندق فلسطين بحدائق المنتزة في الإسكندرية، واختلف فيها القادة حول المدة التي يحتاجونها لاستعادة فلسطين من براثن الصهيونية، وبخاصة حين ادعى أحدهم أنه قادر على تحرير فلسطين في ثلاثة أيام. كان أغلب الحديث عن فلسطين في ذلك الوقت حديثاً عن الحرب. وبالفعل عاشت القضية في ملف الحرب سنوات عديدة وقمماً كثيرة، إلى أن انتقلت بعد ثلاثين عاماً إلى ملف السلام. وها نحن نعقد القمة الدورية السادسة والعشرين بعد ثلاث عشرة قمة غير دورية آخرها قمة فاس التي اتخذت أول قرار سلام، وحديثنا في كل القمم اللاحقة لهذه القمة لم يخرج عن ضرورة تقديم تنازلات جديدة لإسرائيل تحت عنوان مبادرات السلام، والتي توّجتها مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002.

لم يبق من حديث التنازلات في القمم المقبلة إلا حديث التصفية. لم يعد هناك ما نتنازل عنه. بمعنى آخر، يتوقع سياسيون غربيون وديبلوماسيون عرب أن يكون لتصفية القضية ملف خاص بها يحل محل ملف السلام الذي حل قبل ثلاثين عاماً محل ملف الحرب. المواطن العربي الذي ضحّى أو انشغل أو جرى توظيفه وتكبيله في سبيل فلسطين يسأل القمة المنعقدة هذه الأيام في مصر عن مصير ملف السلام، هل سيغلق هذا الملف في هذه القمة استعداداً لفتح ملف جديد في القمة المقبلة، عنوانه «ملف التصفية»؟ وعلى كل حال يبدو أن السؤال لن يحظى بالاهتمام الواجب، بعدما زحفت على اهتمامات صانعي السياسة العرب قضايا أخرى، متسببة في إزاحة القضية الفلسطينية عن مكانتها المتميزة، كقضية كل العرب وكل العقود وكل القمم.

جيل بعد جيل يُسمع عن خطط لإصلاح جامعة الدول العربية وتطوير العمل العربي المشترك، ولا يُرى إنجازاً. الأمم المتحدة بأعضاء اقترب عددهم من المئتين طوّرت نفسها وأصلحت ما فسد من هياكلها واستعادت ما غاب من أحلامها، والجامعة العربية بأعضاء يتأرجح عددهم حول العشرين، بمن انفرط أو هلك أو تدهور أو بقي على حاله، لم تفلح في اتخاذ قرار بإصلاح نفسها.

تشهد آخر تجربة اجتهاد للإصلاح على أن مقاومة الدول المناهضة للإصلاح، بمعنى التغيير وإن طفيفاً، مازالت عارمة. مرة أخرى، تنعقد قمة وكلي ثقة للأسف بأنها لن تثمر خطة لدعم مسيرة العمل العربي المشترك، أو برنامجاً لتطوير ميثاق الجامعة العربية، أو خريطة طريق توضح بصراحة وصدق نية الحكومات العربية في الاحتفاظ بعروبة بلادهم، وعدم التفريط فيها لمصلحة نظام إقليمي غير عربي.

ملف آخر تغيّر مكانه. كانت إيران تحتل صفحات محدودة في ملف ثالث، تقدمت أسبقيته في السنوات الأخيرة حتى كاد يحتل مكانة الملف الأول في جداول القمة العربية. مرة أخرى تسببت النخب السياسية العربية بقصر نظرها وسوء أدائها وارتباك أولوياتها في تسهيل حصول دولة من دول الجوار على حقوق تدخل ووصاية وفرض الحماية في النظام العربي. لابد لنا في مطلع حديثنا عن الملف الإيراني من أن نعلن مسؤولية دول عربية معينة ومنظمات عربية، مذهبية وطائفية، عن نجاح النظام الثوري في إيران في اختراق النظام العربي. يجب الاعتراف بأننا، جميعاً، اسأنا إدارة علاقاتنا مع إيران. كنا الطرف الأكثر عدداً، والأغنى موارد، والأقوى علاقة وارتباطاً بالدول الكبرى، ومع ذلك لم نحاول مرة واحدة تنشيط الأداة الوحيدة المناسبة لتحشيد الدبلوماسيات والكفاءات اللازمة لإدارة العلاقة العربية ـ الإيرانية، وهي مؤسسات العمل العربي المشترك.

ننكر كعادتنا دائماً أننا اخترنا منذ البداية الاعتماد على قوى أجنبية في إدارة هذه العلاقة، متناسين أن لهذه القوى الأجنبية مصالح، بعضها يتناقض مع مصالحنا القومية والاستراتيجية. انكشف التناقض ولكن بعدما كانت العلاقة قد تحوّلت بالفعل إلى صراع، وبدأت إيران تحقق ثماراً وراح العرب يحصدون الخسائر. وكالعادة أيضاً، راحوا يبحثون عن قوى أجنبية أخرى، تركيا واحدة منها، حليفاً أو طرفاً مسانداً. ننسى أن تركيا دولة جارة لها مصالح في النظام العربي تتناقض مع مصالح شعوب عربية بعينها ومع مشاعرها، وبخاصة تجاه التاريخ الأسود الذي ربطها بالإمبراطورية العثمانية. يتجدد الخطأ، نعالج قصور سلوكنا الاستراتيجي مع إيران بسلوك لا يقل قصوراً مع تركيا.

ما أبشعه وأقساه هذا الحديث المتردد هذه الأيام في دهاليز أكثر من سلطة عربية حاكمة عن احتمال إقامة جسور تعاون مع إسرائيل في حال ترددت تركيا عن الخوض بعمق في يمّ الصراع العربي الإيراني، أو في حال أمكن إقناعها بضرورة إشراك إسرائيل.

أظن أن مَن بيدهم صنع قرارات هذه القمة العربية تحديداً يدركون أن دوائر مؤثرة في الغرب تعتبر كثيراً من التطورات الراهنة في الشرق الأوسط بمثابة الشرارات الأولى لحرب دينية في الإقليم قد تدوم عشرات، وربما مئات السنين. لا يُخفى عليهم أن معظم الأطراف في الإقليم تخضع لهيمنة التشدّد والتطرف. كلمات وشعارات التطرف الديني يرددها الآن «الجهاديون» والإرهابيون في كل مكان، ويرددها رجال دين ومؤسسات دينية ومسؤولون سياسيون، كلهم يزايدون يوماً بعد يوم تخفت أصوات الاعتدال السياسي والديني والمذهبي والطائفي والقومي لمصلحة زمجرة المتطرفين وفتاوى المتشددين ورصاص الإرهابيين ونفاق بعض النخب السياسية والإعلامية.

أتصور أن القراءة السليمة لتطور الأوضاع الراهنة في العلاقات الإيرانية العربية، يجب أن تحفزنا لمطالبة القمة العربية بالنطق بخطاب معتدل يدعو إلى التروي والهدوء، وينفي عن المسؤولين العرب ضلوعهم بالخطأ أو بالخوف أو بسوء الإدارة في إطلاق شرارات حرب دينية في الشرق الأوسط. واجب القمة أن يرتفع أداؤها في إدارة علاقات العرب مع إيران، عساه يقترب من مستوى أداء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وهي الدول التي اشتبكت مع إيران في معركة مفاوضات لم تطلق فيها رصاصة واحدة، ولكنها المعركة التي سوف تفرز بالتأكيد نظاماً جديداً لتوازن القوى في الشرق الأوسط لم تستشر فيه الدول العربية، وإن جرى مؤخراً إحاطة عدد قليل جداً منها بقشور تطمينات ومعلومات ومسكنا.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار قناة دجلة الفضائية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :

أخبار أخرى

اكثر الاخبار قراءة

من برامجنا